العُمر

الكاتبة نور مؤيد عوّاد
بلغتُ الثامنة والعشرين من العُمر ، لا أتقن شيئاً في حياتي سوى الكتابة.
لستُ إلّا هاوية ، تُحاور أوراقاً كانت صمّاء حتى وهبتها الحياة ، أخلق من حروفي مشاهد ، قد يعيشها البعض.
كان تشجيع مَن حولي لي هو الداعم لبدايتي ، كانت أراؤهم تُغرقني بالمدح والإطراء ، والآن ؛ السؤال الذي أودّ أن أجد إجابته هنا : هل كان ما يُعجبهم هو ما تكتبه نور القريبة والصديقة والرفيقة ، أم النص بحد ذاته لكاتبةٍ غريبة أيّاً كان اسمها !
فسأنشر لمن لا يعرفني .
أتقبل النقد البنّاء ، الذي قد يجعل مني كاتبة يوماً ما.
نص بعنوان: العُمر
نظرتْ إلى تجاعيد يديها ، ثمّ أسرعتْ إلى المرآة ، حدّقتْ في تجاعيد أسفل عينيها ، ابتسمتْ و همست :
” مرحباً بِكلِ خطِ يُخبّئ في ثناياه قصة !
بدأتْ تتحسس وجهها بأصابعها ، وتزداد تعجباً ، قالت تُخاطب تجاعيدها واحدةً فالأخرى :
” هنا عمر الطفولة يختبئ ؛ الضفيرة المربوطة بربطةٍ بيضاء ، وهنا دموعي حين حرمتني أمّي أن ألعب في الساحة مع صديقاتي قبل أنْ أُنهي واجب الحساب ..!
هذا الخط أرى فيه طريق مدرستي ، كان يقف بائع الكعك العجوز بِعربته على هذه الزاوية ، اذكر يوماً كان الجو ماطراً ، عاونته بجرّ العربة إلى مكانٍ مسقوف ، شكرني وأعطاني كعكةً ، كانت أول هديةٍ أتلقاها من رجلٍ غريب ..!
تنهدتْ ، ابتسمتْ وتنقلتْ بين تجاعيد وجهها كفراشةٍ تطير من زهرةٍ لأخرى !
وقفتْ عند ثنيةٍ بارزة ؛ وقالتْ :
” هنا حبّي الأول ، مراهقتي ، ابن الجيران ، الذي كان كلما خرجتُ إلى الساحة لأدرس ، يقفُ على سطح دارهم يدرس ، ينظر إليّ أكثر مما ينظر في كتابه ، لأكون صريحةً فأنا أيضاً كنتُ كذلك ..!
هنا في هذه الطيّة أرى آخر يوم في ذهابي إلى مدرستي الثانوية ، كانت أول مرةٍ يتحدث إليّ ويقول لي أنه معجبٌ بي !
أتذكر صوته جيداً ، كان رجولياً لدرجة أنستني أنني أتحدث مع مراهق في سنّي !
في يوم اختبار الثانوية الأخير ، خرجت أبكي وأنا أعلم أنني لن أحصل على تقديرٍ جيد ، قابلني على باب المدرسة صار يُهدّئني و أعطاني وردة حمراء رائحتها من الفردوس ، كانت الهدية الثانية من غريب و لكنّها كانت هديةَ الروح !
ثمّ جاء وقتُ إجازة الصيف ، و لن أراه في طريقي إلى المدرسة ، فعُدنا إلى أحاديث العيون عن بُعد ..!
حتى أمسكتني أمّي وعيوني تُخاطبه بسكون ، فصفعتني وحرمتني أن أجلس في الساحة أبداً ، بكيتُ ليلتها حتى شعرتُ أنني سأودٍّع الحياة قريباً .. ! .. ولكنني لم أمُت ! احتضنتُ وردته المتيبسة حتى غفوت !
أغمضتْ عينيها ، أخذتْ نفساً عميقاً وقالت : ” … والله إنني لأجد ريحها ! ” .
فتحتْ عينيها وأكملتْ رحلتها في تجاعيد العمر ، وصلتْ إلى ثنايا الجبين كان يغطيها أطراف شعرها الأبيض ، صارت تزيل غرّتها بأصابعها يميناً و شمالاً .. و قالتْ بيأس : ” هذه أعتاب مدرستي الثانوية التي انتهى عندها حُلمي ..!
فكتُ أحلم أن أكون طبيبة ، ولكن تقديري لم يعطني الحق في دراسة جسد الإنسان ، فدرستُ تاريخه !
دخلتُ إلى كلية الآثار ، أنصتُّ جيداً إلى الأحجار ، كان داخل كل حجرٍ قصة ، تماماً كتجاعيدي هذه !
أشارتْ بيدها إلى أحد الطيّات ابتسمتْ وقالتْ : ” أرى صديقاتي هنا ! ضحكنا معاً ، وبكينا معاً ! حين تضعف إحدانا ، نكون قوّتها ، و حين تُخطئ واحدة نُسرع في تصويب خطئها ! كنّا روحاً واحدةً بخمسة أجساد !
ثم فرقتنا الحياة ، و ها نحن نحاول أن نُبقي سبيل لقائنا دائماً سهل وسالك .. أنا أحبهنّ جداً ، أظنّهنّ هديتي الثالثة لكنّها ليست من بشرٍ بل من الرّب ..! “
تنهدتْ وجلستْ بعيداً عن المرآة ، عادت للنظر في تجاعيد اليدين وإلى الإصبع الذي يحتجزه خاتم الزواج ؛ ابتسمت وقالت :
“وهنا ..! أراني أنا الآن ، أرى المسؤولية ، والحب ، الثقة و الأمان ، أرى خوفي على غيري ، أرى سهري ليلاً على صحة ابني ، ثم مراقبتي لعقارب الساعة التي تلدغني بانتظار عودته من عمله ، فرحتي عند نجاح ابنتي ، دمعتي عند زواجها ، وقُبلة الوداع الأخير على جبين أبيهما ! “
رفعتْ رأسها وأخذتْ منديلاً مسحتْ به دموع الذكريات ؛ ابتسمتْ وقالتْ :
” لن أجد راوياً لتاريخي ، أكثر صدقاً من تجاعيد العُمر هذه ؛ فهذه هي أنا ..! “
يمكن متابعة كتابات الكاتبة نور عبر حسابها الشخصي على موقع الفيسبوك من خلال الرابط التالي:
https://m.facebook.com/khrbshat.noor.awwad/?ref=bookmarks
يمكن قراءة المزيد من النصوص الأدبية وعدة أمور في عالم الأدب من خلال الرابط التالي: